فصل: فصل في توجيهات دينية ومناصحات فيما يجب علي الراعي والرعية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.مَوْعِظَة:

عِبَادَ اللهِ مَنْ كَانَ الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ كَيْفَ يَقِرُّ لَهُ قَرَار وَمَنْ كَانَ الدَّهْرُ يُجَارِيهِ فَكَيْفَ يُطِيقُ الانْتِصَار، وَمَنْ كَانَ رَاحِلاً عَنِ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ كَيْفَ يَلَذُّ لَهُ قَرَارُ، عَجَبًا لِمَنْ يَمْلأ عَيْنهُ بِالنَّوْمِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيُسَاقُ إلى الْجَنَّةِ أَوْ إلى النَّارِ.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ وَهِيَ قَرِيرَةٌ ** وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيْ الْمَكَانِينِ تَنْزِلُ

إِنْ هِيَ إِلا غَفْلَةٌ وَأُمْنِيَّةٌ عَاجِلَةٌ وَسَجِيَّةٌ عَادِلَةٌ جَرَى بِهَا الْقَلَمُ وَمَضَى عَلَيْهَا سَالِفُ الأُمَمِ، فَيَا فَرَائِسَ الأَحْدَاث وَيَا غَرَائِسَ الأَجْدَاث، لَقَدْ صَعَقَ الْمَوْتُ فِي دِيَارِكُمْ فَنَعَب، وَصَدَقَكُمْ صَرْفُ الزَّمَانِ وَمَا كَذَب، فَكَأَنَّهُ قَدْ أَعَادَ عَلَيْكُمْ الْكَرَّةَ وَسَلَبَ، وَنَغَّصَ عَلَيْكُمُ الْمَسّرةَ، وَانْتَهَزَ فِيكُم الغِرَّة، فَمَا أَقَالَكُمْ عَثْرَة.
عَنْ كَعْبٍ أَوْ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ: يَقُومُونَ مِقْدَارَ ثَلاثَمَائَةِ عَامْ. قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: مَا ظَنُّكَ بِأَقْوَامٍ قَامُوا للهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَقْدَامِهِمْ مِقْدَارُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةَ لَمْ يَأْكُلُوا فِيهَا أَكْلَةَ وَلَمْ يَشْرَبُوا فِيهَا شَرْبَةْ حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أَعْنَاقُهمْ مِنَ الْعَطَشْ وَاحْتَرَقَتْ أَجْوَافُهُمْ مِنَ الْجُوعِ انْصُرِفَ بِهِمْ إلى النَّارِ فَسُقُوا مِنْ عَيْنٍ قَدْ آنَ حَرُّهَا وَاشْتَدَّ نَفْحُهَا.
فَلَمَّا بَلَغَ الْمَجْهُودُ مِنْهُمْ مَا لا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ كَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي طَلَبِ مَنْ يُكْرُمُ عَلَى مَوْلاهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ فِي الرَّاحَةِ مِنْ مَقَامِهِمْ وَمَوْقِفَهِمْ لِيَنْصَرِفُوا إلى الْجَنَّةِ أَوْ إلى النَّارِ مِنْ وُقُوفِهم فَفَزِعُوا إلى آدَمَ وَنُوحٍ وَمِنْ بَعْدِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى كُلُّهُمْ يَقُولُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمِ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ قَبْلَهْ وَلا يَغْضَبُ بَعْدَهْ مِثْلَهْ فَكُلُّهمْ يَذْكُرُ شِدَّةَ غَضَبِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَيُنَادِي بِالشُّغُل بِنَفْسِه فَيَقُولَ نَفْسي نَفْسِي فَيَشْتَغِلُ بِنَفْسِهِ عَنَ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ إلى رَبِّهِمْ لاهْتِمَامِهِ بِنَفْسِهِ وَخَلاصِهَا.
وَكَذَلِكَ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} فَبَادِرُوا رَحِمَكُمُ اللهْ وَأَنْتُمْ فِي مَكَانِ الإِمْكَانْ، قَبْلَ ضِيقِ الأَوْطَانِ، وَتَقَلُّصِ اللِّسَانَ وَاصْفِرَارِ الْبَنَان، وَالتَّقَلُّبِ مِنْ جِهَةٍ إلى جِهَة مِنْ شِدَّةِ الآلام.
وَرَفْعُ يَدٍ وَوَضْعُ الأُخْرَى مِنْ شَدَّةِ السَّكَرَات، لِجَذْبِ الرُّوحِ مِنْ الْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ وَالْعِظَامِ، قَبْلَ شُخُوصِ الْبَصَر، وَبُرُودَةِ الْبَدَنِ، وَنَقْلِهِ لِبَيْتِ الدَّوْدِ وَالظُّلْمَةِ وَالْوَحْشَةِ وَالإِنْفِرَادِ وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَمَا يَعْقُبُه مِنْ كُلِّ أَمْرٍ خَطِيرٍ فِي يَوْمٍ يَشِيبُ مِنْ أَهْوالِهِ الْوِلْدَان.
فَمَا ظَنّكُمْ عِبَادَ اللهِ بِيَوْمٍ بَضَائِعُهُ الأَعْمَالُ، وَشُهُودُهُ الْجُلُودُ وَالأَلْسِنَةً وَالأَوْصَال، وَسِجْنُهُ النَّارُ، وَحَاكِمُهُ الْجَبَّارُ، إِنَّ ذَلِكَ لَيَوْمٌ عَظِيمٌ لا يَعْمَلُ لِحِسَابِهِ إِلا مَنْ وَفَّقَهُ الْحَيُّ الْقَيُّوم لَيْسَ فِيهِ لِلْمُجْرِمِ رَاحَةٌ وَلا نَوْمٌ، فَانْتَبِهُوا رَحِمَكُمْ اللهُ وَتَيَقَّظُوا وَتَزَوَّدُوا فَكَأَنَّكُم بِهِ وَقَدْ أَتَى قَالَ تَعَالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ}، {أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}.
خَبَتْ مَصَابِيحُ كُنَّا نَسْتَضيءُ بِهَا ** وَطَوَّحَتْ لِلْمَغِيبِ الأَنْجُمُ الزَّهَرُ

وَاسْتَحْكَمَتْ غُرْبَةُ الإسلام وَانْكَسَفَتْ ** شَمْسُ الْعُلُومِ الَّتِي يَهْدِي بِهَا الْبَشَرُ

تُخُرِّمَ الصَّالِحُونَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ ** وَقَامَ مِنْهُمْ مَقَامَ الْمُبْتَدَا الْخَبَرُ

فَلَسْتَ تَسْمَعُ إِلا كَانَ ثُمَّ مَضَى ** وَيَلْحَقُ الْفَارِطُ الْبَاقِي بِمَنْ غَبَرُوا

وَالنَّاسُ فِي سَكْرَةٍ مِنْ خَمْرِ جَهْلِهِمُ ** وَالصَّحْوُ فِي عَسْكَرِ الأَمْوَاتِ لَوْ شَعِرُوا

نَلْهُو بِزُخْرُفِ هَذَا الْعَيْشِ مِنْ سَفَهٍ ** لَهْوَ الْمُنَبِّتِ عَودًا مَا لَهُ ثَمَرُ

وَتَسْتَحِثُّ مَنَايَانَا رَوَاحِلَنَا ** لِمَوقِفٍ مَا لَنَا عَنْ دُونِهِ صَدَرُ

إِلا إلى مَوْقِفٍ تَبْدُوا سَرَائِرُنَا ** فِيهِ وَيَظْهَرُ لِلْعَاصِينَ مَا سَتَرُوا

فَيَا لَهُ مَصْدَرَا مَا كَانَ أَعْظَمَهُ ** النَّاسُ مِنْ هَوْلِهِ سَكْرَى وَمَا سَكِرُوا

فَكُنْ أَخِي عَابِرًا لا عَامِرًا فَلَقَدْ ** رَأَيْتَ مَصْرَعَ مَنْ شَادُوا وَمَنْ عَمَرُوا

اسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ عَنْ مَعَاقِلِهِمْ ** كَأَنَّهُم مَا نَهَوْا فِيهَا وَلا أَمَرُوا

تُغَلُّ أَيْدِيهِمُوُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ ** بَرُّوا تُفَكُّ وَفِي الأَغْلالِ إِنْ فَجَرُوا

وَنُحْ عَلَى الْعِلْمِ نَوْحَ الثَّاكِلاتِ وَقُلْ ** وَالْهَفْ نَفْسِي عَلَى أَهْلٍ لَهُ قُبِرُوا

الثَّابِتِينَ عَلَى الإِيمَانِ جُهْدَهُم ** وَالصَّادِقِينَ فَمَا مَانُوا وَلا خَتَرُوا

الصَّادِعِينَ بِأَمْرِ اللهِ لَوْ سَخَطُوا ** أَهْلُ الْبَسِيطَةِ مَا بَالُوا وَلَوْ كَثُرُوا

السَّالِكِينَ عَلَى نَهْجِ الرَّسُولِ عَلَى ** مَا قَرَّرَتْ مُحْكَمُ الآيَاتِ وَالسُّوَرُ

الْعَادِلِينَ عَنِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا ** وَالأَمْرَيْنَ بِخَيْرٍ بَعْدَ مَا ائْتَمَرُوا

لَمْ يَجْعَلُوا سُلَّمًا لِلْمَالِ عِلْمَهُمُوا ** بَلْ نَزَّهُوهُ فَلَمْ يَعْلُقْ بِهِ وَضَرُ

فَحَيَّ أَهْلاً بِهِمْ أَهْلاً بِذِكْرِهِمُوا ** الطِّيبِينَ ثَنَاءً أَيْنَمَا ذُكِرُوا

أَشْخَاصُهُمْ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى وَهُمُوا ** كَأَنَّهُمْ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ نُشِرُوا

هَذِيْ الْمَكَارِمُ لا تَزْوِيقُ أَبْنِيَةٍ ** وَلا الشُّفُوفُ الَّتِي يُكْسَى بِهَا الْجُدُرُ

وَالْعِلْمُ إِنْ كَانَ أَقْوالاً بِلا عَمَلٍ ** فَلَيْتَ صَاحِبَةُ بِالْجَهْلِ مُنْغَمِرُ

يَا حَامِلَ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ إِنَّ لَنَا ** يَوْمًا تُضَمُّ بِهِ الْمَاضُونَ وَالأخر

فَيَسْأَلُ اللهُ كُلاً عَنْ وَظِيفَتِهِ ** فَلَيْتَ شِعْرِي بِمَاذَا مِنْهُ تَعْتَذِرُ

وَمَا الْجَوَابُ إِذَا قَالَ الْعَلِيم إِذَا ** قَالَ الرَّسُولُ أَوْ الصِّدِّيقُ أَوْ عُمَرُ

وَالْكُلُّ يَأْتِيهِ مَغْلُولَ الْيَدَيْنِ فَمِنْ ** نَاجَ وَمِنْ هَالَكٍ قَدْ لَوَّحَتْ سَقَرُ

فَجَدِّدُوا نِيَّةُ للهِ خَالِصَةً ** قُومُوا فُرَادَى وَمَثْنَى وَاصْبِرُوا وَمُرُوا

وَنَاصِحُوا وَانْصَحُوا مَنْ وَلِيَ أَمْرَكُمُ ** فَالصَّفْوُ لابد يَأْتِي بَعْدَهُ كَدَرُ

وَاللهُ يَلْطُفُ فِي الدُّنْيَا بِنَا وَبِكُمْ ** وَيَوْمَ يَشْخَصُ مِنْ أَهْوَالِهِ الْبَصَرُ

وَصَلِّ رَبِّ عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا ** شَفِيعِنَا يَوْمَ نَارِ الْكَرْبِ تَسْتَعِرُ

مُحَمَّد خَيْرِ مَبْعُوثٍ وَشِيعَتِهِ ** وَصَحْبِهِ مَا بَدَا مِنْ أُفْقِهِ قَمَرُ

اللَّهُمَّ كَمَا صِنْتَ وَجُوُهَنَا عَنِ السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْ وُجُوهَنَا عَنِ الْمَسْأَلَةِ لِغَيْرِكَ، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ عَلَى هَوَى وَهُوَ يَظُنُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فَرُدَّهُ إلى الْحَقِّ حَتَّى لا يَظَلُّ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ اللَّهُمَّ لا تَشْغَلْ قُلُوبَنَا بِمَا تَكَفَلْتَ لَنَا بِهِ وَلا تَجْعَلْنَا فِي رِزْقِكَ خَوَلاً لِغَيْرِكَ وَلا تَمْنَعْنَا خَيْرَ مَا عِنْدَكَ بِشَرِ مَا عِنْدَنَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
مَوْعِظَةٌ:
عباد الله إِنَّ عَلَيْكُمْ مَسْئوليَّةً كُبْرَى وَفِي أَعْنَاقِكُمْ أَمَانَةً عُظْمَى سَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ يَبْعَثُ اللهَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، فَإِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ حَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ.
عِبَادَ اللهِ إِنَّ فِي أَعْنَاقِكُمْ أَوْلادَكُم وَهُمْ أَفْلاذُ أَكْبَادِكُم فَاتَّقُوا اللهَ فِيهِمْ وَوَجّهُوهُمْ إلى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالأَخْلاقِ الْفَاضِلَةِ، فَإِنَّ هَؤُلاء الأَوْلادِ سَيَكُونُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ رِجَالاً، فَإِذَا تَرَبُّوا عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَتَعَوَّدُوا الأَخْلاقَ الصَّالِحَةَ الَّتِي تَرْفَعُ مَقَامَهُمْ وَتُعْلِي شَأْنَهُمْ وَحَصَّلُوا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ مَا يَنْفَعُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَنْفَعُونَ بِهِ عِبَادَ اللهِ، كَانُوا أَسَاسًا مَكِينًا لِنَهْضَةِ الأُمَّةِ وَهَذَا أَمْرٌ لا يَخْتَلِف فِيهِ اثْنَانِ.
وَإِنْ اسْتَعَادُوا سَافِلَ الأَخْلاقِ وَهَجَرُوا الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا يُعِينُ عَلَيْهَا، كَانُوا ضَرَرًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى الأُُمَّةِ.
عباد الله التَّرْبِيَةُ أَمْرٌ عَظِيمُ الْخَطَرِ كَبِيرُ الْقِيمَةِ، وَالطِّفْلُ أَمَانَة عِنْدَ وَالِدَيْهِ، وَقَلْبُهُ الطَّاهِرُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصُورَةٍ فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَشَارَكَهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ، وَكُلُّ مُؤَدِّبٍ وَمُعَلِّمٍ لَهُ فِي الْخَيْرَ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأَهْمِلَ وَتُرِكَ بِلا عِنَايَةٍ، شَقِيَ وَهَلَكَ وَكَانَ عَلَى وَلِيّه وَرَاعِيهِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الإِثْمِ.
فَالتَّرْبِيَةُ هِيَ غَرْسُ الدِّينِ الإسلامي وَمَحَبَّتِهِ وَآدَابِهِ قَوْلاً وَعَمَلاً وَاعْتِقَادًا، وَغَرْسُ الأَخْلاقِ الْفَاضِلَةِ فِي نُفُوسِ النَّاشِئِينَ وَسَقْيُهَا بِمَاءِ الإِرْشَادِ وَالنَّصِيحَةِ، وَالتَّوْجِيهِ إلى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإتِّبَاعِ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِي عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلا عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ».
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
فصل:
قَالَ فِي الدُّرُوسِ الْوَعْظِيَّةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: أَجْمَعَ الْعُقَلاءُ عَلَى أَنَّ الإِنْسَانَ بِحَاجَةٍ إِلى التَّرْبِيَةِ فَإِنَّمَا يُولَدُ صَغِيرًا مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ الْمُمَيِّزَاتِ قَابِلاً لِكُلِّ نَقْشٍ مُسْتَعِدًّا لِكُلِّ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ تَعْلِيمٍ وَيُحَاطُ بِهِ مِنْ تَثْقِيفٍ.
وَالْوَالِدَانِ هُمَا الرَّاعِيَّانِ لِولَدِهِمَا الْمَسْؤُلانِ عَنْهُ لَدَى اللهِ وَالنَّاسِ، فَإِنْ أَحْسَنَا تَأْدِيبَهُ وَعَوَّدَاهُ الْخَيْرَ وَإنْشَاءَهُ عَلَيْهِ سَعْدَ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ وَنَالَ أُمْنِيَّتِهِ وَمُبْتَغَاهُ، وَكَانَ لِوَالِدَيْهِ وَكُلِّ مِنْ اشْتِرَكَ فِي تَعْلِيمِهِ وَسَاهَمَ فِي تَهْذِيبِهِ أَجْرُهُ عِنْدَ اللهِ، وَإِنْ أَهْمَلََهُ وَالِدَاهُ إِهْمَالَ الْبَهَائِم وَلَمْ يَرْعَيَا حَقَّ اللهِ بِهِ كَانَ إثْمُهُمَا عِنْدَ اللهِ كَبِيرًا وَسُؤَالُهُمَا خَطِيرًا.
وَإِنَّ مِن الأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ وَالْحَقَائِقِ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا أَنَّ عَقْلِيَّةِ الْوَلَدِ تَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الْبِيئَةِ وَالْمُجْتَمَعِ صِحَّةٌ وَفَساَدًا، لِسَذَاجَةِ نَفْسِهِ وَسَلامَةِ فِطْرَتِهِ إِذَنْ، فَوَاجِبُ الْوَالِدِ كَبِيرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُوَطُه بِعِنَايَةٍ دَقِيقَةٍ وَرِقَابَةٍ شَدِيدَةٍ وَتَوْجِيهٍ صَحِيحٍ وَتَرْبِيَةٍ حَسَنَةٍ.
وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤَدِّبَهُ، وَيُهَذِّبَهُ، وَيُعَلِّمَهُ مَكَاِرَم الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنَ الْعَادَاتِ، وَيَحْفَظَهُ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَذَوِي الأَخْلاقِ الْمُنْحَطَّةِ، وَلْيَعْلَم الْوَالِدُ أَنَّ وَلَدَهُ أَمَانَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيُؤَدِّ وَاجِبَ الأَمَانَةِ، وَلْيَقُمْ بِحَقِّ الرِّعَايَةِ.
وَإِذَا أُهْمِلَ الْوَلَدُ فِي ابْتِدَاءِ نَشْأَتِهِ وَأَوَّلِ رَعْرَعَتِهِ وَتَمْيِيزِهِ خَرَجَ خَبِيثَ الطَّبْعِ سَيِّءِ الأَخْلاقِ، مُحْتَالاً كَذَّابًا سَرَّاقًا كَثِيرَ الْهَذَيَانِ وَفُضُولِ الْكَلام، يَتَدَخَّلُ فِيمَا لا يَعْنِيهِ، بَذِيءَ اللِّسَانِ مُغْتَابًا نَمَّامًا وَقِحًا بَعِيدًا َعن التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، قَرِيبًا مِن الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ.
وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالُ لا يَكُونُ وَبَالاً عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَعُضْوًا فَاسِدًا يَجِبُ أَنْ يَبْتَرَ وَيُقْطَعَ إِلا مَنْ حَفِظَ رَبُّكَ.
وَيَجِبُ عَلَى وَلِيّ الطِّفْلِ وَالطِّفْلَةِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّعْلِيمِ أَنْ يُسَلِّمَ الْوَلَدَ لِمُرَبٍّ صَالِحٍ، وَمُعَلِّمٍ نَاصِحٍ، يَحْفَظُ عَلَيْهِ أَخْلاقَهُ، وَيُحَسِّنُ آدَابَهُ، وَيُرَوِّضُه وَيُمَرِّنُه عَلَى الشَّعَائِرَ الدِّينِيَّةِ، وَيُلَقِّنَهُ الْعَقَائِدَ الصَّحِيحَة السَّلِيمَةَ، الإسلاميَّةِ وَلا يَتَسَامَحْ مَعَهُ فِي إِهْمَالِ أَمْرِ الدِّينِ وَآدَابِهِ.
وَلا يَجُوزُ تَسْلِيمُ الطِّفْلِ إلى مُعَلِّمٍ مُتَهَتِّكٍ يَسْتَهْتِرُ بِأَمْرِ الدِّينِ أَوْ زِنْدِيقٍ مَارِقٍ لا يُبَالي بِعَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ جَاهِلٍ سَخِيفٍ يَبْهُتُه بِالْخَرَافَاتِ واَلغْرَائِبِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ لا يُمَيِّز الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِل واَلغْثَ مِن السَّمِينِ، أَوْ مُلْحِدٍ خَارِجٍ عَن الأَوَامِرِ الإِلَهِيَّةِ وَالنَّوَامِيسِ السَّمَاوِيَّةِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِالتَّعَالِيمِ الدِّينِيَّةِ، أَوْ يَقْذِفُ بِهِ فِي الْمَدَارِسِ التَّبْشِيرِيَّةِ الأَجْنَبِيَّةِ ذَاتِ الأَغْرَاضِ الْمَعْرُوفَةِ وَالْغَايَاتِ الدَّنِيئَةِ وَالتَّوْجِيهِ الْفَاسِدِ ضِدَّ الإسلام وَالْمُسْلِمِينَ.
وَلِمِثْلِ هَذِهِ الأَغْرَاضِ الشَّرِيفَةِ وَالْغَايَاتِ النَّبِيلَةِ، يُرْشِدُنَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رِعَايَةِ الْوَلَدِ، وَصِيَانَتِهِ، وَشِدَّةِ مُرَاقَبَتِهِ، وَحِمَايَتِهِ فَهُوَ يَقُولُ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلا عَلَى الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ الإسلاميَّةِ، وَالْعَقِيدَةِ الْمَرْضِيَّة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ».
الْمَعْنَى إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَنْ تَغَيَّرَ عَن الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ وَمَالَ إلى الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الزَّايفَةِ كَانَ سَبَبُ تَغَيُّرِهِ أَنَّ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ بِتَعْلِيمِهِمَا إِيَّاهُ، وَتَرْغِيبِهِمَا فِيهِ، أَوْ.
وَنَحْوَ هَذِهِ الآيَةِ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا وَالآيَةُ الأُخْرَى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

.فصل في توجيهات دينية ومناصحات فيما يجب علي الراعي والرعية:

وقال في توجِيهَات دينية ومناصحات فيما يجب علي الراعي والرعية.
يا أيها المؤمنونَ المسئولون الكرام: إن المؤمن إذا أمعن الفكرة، وتلمس الحقيقةَ، وتجافَى عن التصنعِ والمغالطةِ.
عَلِمَ أن ما أصابَ المسلمينَ مِن تَدَهْوُرٍ وَانْهِيَارٍ، وَنَقْصٍ من أخلاق الدين الحنيف، وتعاليمهِ القيمةِ وسببهُ الوحيدُ.
وعَامِلُه المفردُ تفريطُ زعماءِ الأمة الإسلامية في تربيةِ الشبابِ والتراخي في جهادِ النفوسِ على ما يَجِبُ مِن مُعَانَاةِ النَّشْءِ:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا ** عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ

ومَن هُم زعماءُ الأمةِ؟ نَعْنِي كُلُّ مَنْ يَلي أمرًا مِنْ أمور المسلمين بأمارةٍ أو إدارةٍ، أو يَشْغَلُ مَنْصِبَ تَعْلِيمٍ، أو تكون له كلمةٌ مَسْمُوعَةٌ.
إن أبناءَ المدارسِ في عمومِ البلادِ الإسلامية. هُمُ رجالُ المستقبلِ بَلْ هُمْ المسلمونَ المرجونَ لحملِ الدينِ وَحِمَايَتِهِ.
فإذا أنْهارَ كيانُ الدِّين في نُفُوسِهم، وتَلاشَى تَعْظِيمُ الشَّرِيعَةِ فِي قُلُوبهم، وجَهِلُوا مَا بَلَغَ هَذَا الدِّينُ العَظِيم بأهلِهِ دُنْيًا وَأُخْرَى في حالِ طُفُولَتِهم، وفَرَاغِ أذهانِهِم.
فكيفَ يكونُ الحالُ إِذَا شَبَّ أَبْنَاؤُنَا، وَهُمْ لا يَرَوْنَ وَلا يَسْمَعُونَ إلا دُعَاةَ الاستعمارِ، وَسَمَاسِرَةَ الغربِ قَوْلاً وَعَمَلاً يَتَشَدَّقُونَ بِتَضْخِيم الْغَرْبِ، وَتَعْظِيم رِجَالِهِ، وَينخَرِطُونَ فِي هُوَّةِ تَقْلِيدِهِم.
فَيَفْعَلُ هؤلاءِ، وَيَتَغَافَلُ أولئكَ عن مآثِرَ هِيَ الْمُثُلُ الْعُلْيَا فِي رُقِيّ الْبَشَرَ، قِدْمًا في حَيَاتِهِ الهَنِيئَةِ المُوصِلَة إلى حَيَاتِهِ الأَبَدِيَّةِ فِي جِوَارِ خَالِقِهِ الْكَرِيم.
إِن تِلْكَ المآثِرَ الَّتِي جَلَّتْ عن الْخَفَاء، وَشَهَدَتْ بِهَا الأَعْدَاءُ، وَظَهَرَتْ ظُهُورَ الشَّمْسِ في الملأ لتُبَرْهِنُ على مجد أبنائها.
أولئكَ السادةُ آباؤنا الكرام وسَلَفُنَا الصالِحُ، الذين خَالَطَتْ بَشَاشَةُ الإيمان قُلُوبَهم، وامتَزَجَتْ عَقَائِدُ الدِّينِ بِنُفُوسِهم، وَانْطَبَعَتْ آدابُه وَتَعَاليمُه في أخلاقِهم.
فَمَثَّلُوه عَمَلاً، وَدَعَوْا إِلَيْهِ فِعْلاً قَبْلَ دُعَائِهِمْ إِلَيْهِ قَوْلاً، وَطَبَّقُوا قَوَانِينَهُ وَأَنْظِمَتَهُ حُكُومَاتٍ وَشُعُوبًا وَأَفْرَادًا.
أولئكَ الذين اسْتَرْخَصُوا مُهَجَهُم في سَبيلِ إعْزَازِهِ، وَضَحُّوا بأمْوَالِهِمْ وَأَوْلادِهِمِ وَأَوْطَانِهِمْ فِي حِمَى حَوْزَتِهِ، والذب عن كِيانِهِ:
هُمُ الَّذِينَ رَعَوا لِلدِّينِ حُرْمَتَهُ ** لِلدِّينِ عِنْدَهُمْ جَاهٌ وَمِقْدَارُ

عَظُمَ أَمْرُ الدِّينِ في قُلُوبِهِمْ فَلَمْ يُشَارِكْهُ وَطَنٌ وَلا عَشِيرَةِ. بِهِ وَحْدهُ قَامُوا وبهم قامَ وَلَهُ قَاتَلوا، وَفِيهِ أَحَبُوا وَأَبْغَضُوا ولِشَعَائِرِهِ عَظَّمُوا، وَعِنْدَ حُدُودِهِ وَقَفُوا، وَبِأَوَامِرِه امْتَثَلُوا.
فَامْتَطَوا به هَامَ العَالَمِ حِينَ حَمَلُوهُ، وَأَصْبَحُوا بِهِ مَضْرَبَ الأمثالِ في العِز إذ مَثَّلُوه.
لم تَسْتَعْبِدْهُم الدُّنيا، ولم تُسَيْطِرْ عَلَى نُفُوسِهِمْ شَهوةٌ ذَاتِيَّةٌ، ولم تَمْلِكْهُم الأَعْرَاضُ الشَّخْصِيَّةِ.
ولم يَحْمِلْهُم حُبُّ الانتصارِ عَلَى الظُّلْمِ المُدَمِّرِ، ولم يَثْنِهِمْ حُبُّ الوطَنِ عن الْهِجْرَةِ إليه:
سِيرُوا كَمَا سَارُوا لِتَجْنُوا مَا جَنُوا ** لا يَحْصُدُ الْحُبَّ سِوَى الزَّراع

إنَّ مَحْضَ النُّصْحِ لَيُحَتِّمُ التَّصريح بأن ما حَلَّ بالأُمَّةِ الإسلامية إنما يَتَحمل تبعته كاهلان، ويَتَقَلَّدُ مَسؤوليته عُنُقَان: أُمَرَاءُ الأُمَّةِ، وعُلَمَاءُ الدِّينِ.
أُولئكَ الَّذِين أَوْجَبَ الله لَهُم السمعَ والطاعةَ، وأُخَذَ عَليهم العهدَ والميثاقَ.
فَإِذَا قَامَ العلماءُ بِنَشْرِ تَعَالِيمِ الدِّين، وَتَجْلِيَتِهِ بالأعمال في مَظْهَرِهِ الْحَقِيقِي، وَرَوْنَقِهِ البَاهِرِ.
وَقَامَ الأُمَرَاءُ بِتَطْبِيق أَنْظِمَتِهِ الْكَرِيمةِ، وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ الْقَيِّمَةِ، والاستفادَةِ بإرْشادَاتِهِ السَّاطِعَةِ.
وتَحَقَّقُوا بِوَصْفِ الله لِخُلَفَائِهِ في أَرْضِهِ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}.
وأَسْنَدُوا الأُمُورَ إلى أَكْفَائِهَا عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وَتَصَوَّرُوا مَسْؤُلِيتَهُم الْمُحَقَّقَةِ بِأَخْبَارِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
فاجْتَهِدُوا حَسَبَ الإِمْكَانِ في اخْتِيَارِ الْمُعَلِّمِينَ في مَعَاهِدِهِمْ وَمَدَارِسِهِمْ الدِّينِيَّةِ، وَتَعَهُدِهِمْ بالمراقبةِ الحَقَّةِ الْمُكَافَحِةِ لاتخاذِ التَّعْلِيمِ مَكْسبًا مَحْضًا لا أمانةً وَدِينًا.
إن هذا العِلمَ دِينٌ فَانْظُروا مَنْ تأخذونَ دِينكُم عنه، فَمَنْ خَالَفَ قَوْلُهُ عَمَلَهُ لا يَحِلُّ أَن يُوَلَّى أَمَانَةَ التَّعْلِيم، ولا يَصْلُحُ لِرعَايَةِ أَوْلادِ المسلمين. بل يَجِبُ عليه إصْلاحُ حَالِهِ أَولاً كما قِيل:
- فابْدأْ بنفسك فانْهَهَا عَنْ غَيِّها-
ومِن المحالِ أن يَنْطَبِعَ في قَلْبِ مُتَعَلِّمٍ ما لَيْسَ مِن صِفَةِ مُعَلِّمِهِ.
إن القولَ المجردَ عن العملِ لا أثرَ لَهُ ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ، لأَنَّ الْمُتَعَلِّمَ إِذَا رَأَى تَعَالِيمَ الإسلام عِنْدَ مُعَلِّمِهِ صُورَةً مُجَرَدَةً عَن العملِ اعتقدَ بِحُكْْمِ طُفُولَتِهِ وَبِجَهْلِهِ بَادِئ الأَمْرِ أن الْعِلْمَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ، لا لِلْعَمَلِ به فلم يَرْضَ نَفْسَهُ على الْعَمَلَ بِعِلْمِهِ.
وَبِهَذَا تَعْظُم مُصِيبتُهُ في مُسْتَقبلِ أمره. فَيَجِبُ أَنْ يَتَجَافَى المسْئولُونَ في مَعَاهِدِهِمْ وَمَدَارِسِهم الدِّينِيَّةِ عن الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُون، وَيُظْهِرُونَ مَا لا يُبْطِنُونَ. أُوَلئِكَ الَّذِين مَقَّتَهُمْ الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.
وفي الحديث: «أَخْوَفَ ما أخافَ على أُمَّتِي كُلَّ منافِقِ عَلِيمِ اللسان».
وفي شَرْحِ ابن رَجَبَ على حديث: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ»..... إلخ، رُوِيَ عن عمر رضي الله عنه أنه قَالَ على المنبر: إن أخوفَ ما أخافُ عليكم المُنَافِقَ العليم. قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ الْمُنَافِقُ عَلِيمًا؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بالحكمةِ ويَعْمَلُ بالجورِ أو قَالَ المنكر.
ولا نَلْتَمِسْ من المسُئولينَ التَّفْتِيشَ عن البَاطِنَ، وَتَتبعَ السَّرَائِرَ، فإننا لم نُؤْمَر بِذَلِكَ، وَيَكْفِي المجاهرةُ بمخالفةِ الأعمالِ الظَّاهرَةِ للتعاليم المرسومةِ.
فإن وَفَّقَنَا الله للقيام بالواجب، وأرجوا أن يكون آن لنا ذلك.
وبذلكَ نكون قد تلافينا الخلل، وعالجنا الداء ووضعنا الهناء موضع النقب:
فَيَا مَعْشَرَ الْحُكَّامِ مِن كُلِّ مُسْلِمٍ ** بِنَا فَانْهَضُوا نَحْوَ المَعَالي وَشَمِّرُوا

لِنَعْمُرَ مَجْدًا قَدْ بَنَتْهُ سَرَاتُنا ** فَأعْلَوْا وَعَنْ كُلِّ النَّقَائِصَ سَوَّرُوا

وَسِيرُوا بِنَا نَفْقُوا شَرِيعَةَ أَحْمَدٍ ** نَبِيّ أَتَى بِالْعَدْلِ وَالْبِرِّ يَأْمُرُ

وَخَافُوا إلَهَ الْعَرْشِ في هَضْمِ أُمَّةٍ ** لَهَا نَبَأْ في الذِّكْرِ يُتْلَى وَيُذْكَرُ

وَمَا الْهَضْمُ إلا أَنْ تُضَامَ شُعُوبُكُم ** وَمَا الْعُذْرُ عِنْدَ اللهِ أَنْ تَتَأَخَّرُوا

فَسِيرُوا بِهَا نَحْوَ الإِمَامِ نَسُرُّكُمْ ** فَلَيْسَتْ جُنُودًا بِلْ هِيَ الأُسْدُ تَزْأَرُ

إِذَا أُوتِيَ الرَّاعُونَ حُسْنَ قِيَادَةٍ ** وَصِدْقًا فَإِنَّ الْجُنْدَ جُنْدٌ مُظَفَّرُ

فَمَا نَهَضَ الْكَابُونَ فَضْلاً وَإِنَّمَا ** رَأَوْنَا نِيَامًا ثُمَّ قَامُوا وَزَمَّرُوا

وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ وَعْدًا مُحَقَّقًا ** بِأَنَّكُمْ إِنْ تَنْصُروا اللهَ تُنْصَرُوا

وَهَلْ نَصْرُهُ إِلا إتباعُ كِتَابِهِ ** وَتَحْكِيمُ مَا قَالَ الرَّسُولُ المُطَهَّرُ

فَيَا قَادَةَ الدِّينِ الْحَنِيفِ تَنَاصَرُوا ** وَخَلُّوا أُمُورًا عَنْ عُلاكُمْ تُقْهْقِرُ

فَمَا الْعِزُّ إِلا في اجْتِمَاعِ سَرَاتِكُمْ ** وَأَنْ تَتَوَاصَوْا بِالضِّعَافِ وَتُؤْثَرُوا

وَلا تَسْلَمُوا أَبْنَاءَ دِينٍ مُقَدَّسٍ ** لِكُلِّ غَبِيٍّ بِالْقَبَائِحِ يَجْهَرُ

وَمَجْهُولِ حَالٍ قَدْ رَأَى الْعِلْمَ صَنْعَةً ** وَيَكْفِيهِ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ مُحَرَّرُ

فَمَنْ يَا أَبَاةَ الضَّيْمِ لِلدِّينِ بَعْدَكُمْ ** وَمَنْ لِلشَّبَابِ النَّاشِئِينَ يُبْصِّرُ

تَجَافُوا عَنِ الْجَافِينِ فِي كُلِّ مَعْهَدٍِِ ** وَمَدْرَسَةٍ فِيهَا الْمَعَارِفُ تُنْشَرُ

كَذَاكَ عَن الْغَالِينَ وَابْغُوا أَفَاضِلاً ** فَضَائِلَهُمْ فِي النَّاشِئِينَ تُؤْثَرُ

فَمَرَآةُ أَخْلاقِ الْمُعَلِّمِ طِفْلُهُ ** وَمَا فِيهِ فِي تِلْمِيذِهِ لَكَ يَظْهَرُ

فَأَوْلُوهُم منكم رِقَابَةَ مُخْلِصٍ ** تُمَحِّصُ مِنْ أَخْلاقِهِمْ وَتُطَهِّرُ

فَمَهْمَا اسْتَقَمْتُمْ تَسْتَقِيمُ شُعُوبُكُمْ ** وَإِنْ تُبْصِرُوا أَنْتُمْ فَكُلٌ سَيُبْصَرُ

اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأرض وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، الوَهَّابُ الذي لا يَبْخَلُ وَالحِليمُ الذي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتَ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.